21 يوليو 2009

الشمس وراء السحاب !

هلال شوال ما يزال مبتسماً فقد اشرق زمن الحرية ، وانتهى الى أمد ليل الطاغية الطويل . .
الخليفة الجديد يتخذ قرارات تنم عن ارادة في أن يسود الخير والسلام ربوع البلاد . .
ولكن لعنة غامضة ما تزال تطارد الشاب الذي أقدم على اغتيال والده في تلك الليلة الخريفية من سنة 861 م .
عمت الفرحة انحاء البلاد وكان أكثر الناس فرحاً العلويون الذين ابتهجوا بالسياسة الجديدة . .
فقد الغيت الاجراءات التعسفية كما اطلقت جميع أموالهم المجمدة وافرج عن السجناء الذين اعتقلوا لتهم واهية ، أو بسبب زيارة مرقدي الإمام علي في النجف ونجله سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم الامام الحسين في كربلاء .
وخلال فترة وجيزة تم بناء مرقد الامام الحسين الذي ظل طوال عقد من السنين ارضاً زراعية وتكربها وتجوسها ثيران الحراثة كل عام .
احدث سقوط الطاغية دوياً كبيراً هز المجتمع الاسلامي وكانت سامراء التي هي مركز الزلزال في طليعة المدن التي هزها الحادث .
على أن الدفء الذي غمر الأرض بعد شتاء قارس لم يدم طويلاً فلقد اسفر المشهد الجديد عن وجود قوى تريد كسب المزيد من الثراء والنفوذ والسلطان .
فقد وجد « محمد المنتصر » نفسه محاصراً في قصره بسامراء . .
كل ما استطاع فعله حتى الآن أنه أمر باخلاء العاصمة الجديدة « المتوكلية » بل وهدم جميع منشآتها ونقل مواد البناء الى سامراء فالمتوكلية مشروع فاشل ولد ميتاً لأن مشروع النهر الذي يعد شريان حياتها كان فاشلاً فتحققت نبوءة الرجل المبارك « علي بن محمد » .
نحن ، الآن في نهايات عام 247 هـ مطلع العام الميلادي الجديد 862 م . . وزعماء الحركة الانقلابية من ضباط الحرس والجيش الاتراك قد بلغوا ذروة نفوذهم ويريدون الآن تحقيق اكبر ما يمكن من التسلط « وصيف » « بغا الشرابي » « أوتامش » و « باغرا » ، وقد ظهرت شخصية انتهازية ظهور النباتات المتسلقة تلك هي شخصية رئيس الوزراء الجديد « احمد بن الخصيب » وقد بدا واضحاً أنه قد كسب ثقة الاتراك .
المشهد الآن داخل القصر . . خليفة شاب في الخامسة والعشرين من العمر ، يمتاز برجاحة عقل وحسن تدبير انه يفكر بانقاذ الخلافة من براثن النفوذ التركي المتسلط . . واستعادة المجد العباسي . .
أربعة ضباط اتراك يضمر كل منهم للآخر الكيد ويحاول افتراس صاحبه قبل أن يفترسه ، فيما ظهر ابن الخصيب حرباء تتلون حسب الظروف وأفعى تنفث سمها وحقدها في كل اتجاه .
أما بغا الكبير فقد كان يخطو خطواته الأخيرة نحو القبر بعد أن ذرف على التسعين . . لقد اكتفى بمساندة الاتراك وتأييد الحركة الانقلابية فقط . . ما دام ابنه بغا الصغير المعروف بالشرابي أحد قادتها ومنفذيها .
شعر المنتصر أنه ارتكب خطأ فادحاً بتعيينه أحمد بن الخصيب رئيساً للوزراء ، خاصة بعد أن تناهت اليه حادثة مؤلمة (1) أثارت استياء الناس .
كان المنتصر قد كسب شعبية ومحبوبية بين الناس بسبب سياسته المعتدلة وتخفيفه من محنة العلويين ولكن ثمة أشياء كانت تلقي ظلالها على وجه المنتصر أنه في كل الاحوال قاتل أبيه ، وقاتل الأب لكن يكون طيباً في نظر الناس مهما تفانى في طيبته ! ان سياسة رئيس الوزراء ونفوذ الزعامات التركية قد اصبح واقعاً مريراً يحس بوطأته الشعب ، وكان المنتصر يدرك ذلك جيداً ،
ولذ اجتاحته مشاعر الندم المريرة منذ بدء العام الهجري الجديد الذي أطل مع ربيع سنة 862 هـ .
واضحى قصر « المحدث » بؤرة للمؤامرات والدسائس من جديد ، وما أثار مخاوف الاتراك ان المنتصر قد اصبح كئيباً يعاني من موجات حزن تنتابه بين فترة وأخرى .
كان قمر محرم الحرام بدراً بهياً ، ولم تفلح نسائم آذار المنعشة في أن تدخل البهجة على النفس المعذبة . . . « المنتصر » يعيش احزانه وحيداً تحاصره مشاعر الندم . . ما الذي فعله ؟ ! . . ان كل شيء كان يحلم في تحقيقه يتحطم على صخرة التعسف التركي البغيض . . هؤلاء القتلة الذين مزقوا أبي إرباً ارباً فعلوا ذلك لكي تصبح الخلافة العوبة بايديهم . . ها أنا اصبح دمية في أيديهم . . واجتاحته موجة من الغضب فغمغم ولكن باصرار :
ـ سوف أمزقهم جميعاً . . قتلني الله ان لم اقتلهم وافرق جمعهم (2) !
لكنه يشعر باليأس . . اليأس من الاصلاح وكيف يمكنه مقاومة العاصفة المجنونة . .
ان هؤلاء الاجلاف قد استعذبوا التسلط . . سيوفهم في أيديهم . . والخناجر ؛ واسهل ما عندهم ذبح الانسان من الوريد الى الوريد . . الذين يعرفون « المنتصر » يعرفون مأساة الذي اكتشف أنه لم يحصد سوى الريح . .
في المساء امتطى المنتصر حصانه والهبه بالسياط فانطلق به نحو الافق البعيد لكأنه يريد الهرب لا يدري الى أين ؟ ! وعندما عاد الى القصر كان يتصبب عرقاً (3) فألقى بنفسه في إيوان كانت تهب خلاله نسائم باردة .
القصر يكاد يكون مهجوراً ذلك المساء . . ولم يكن أحد يستطيع الاقتراب من المنتصر هيبة له . . انه يفضل أن يكون وحيداً مع احزانه وعذاباته . .
لم يغف المنتصر طويلاً حتى هبّ من نومه مرعوباً . . يبكي . . تطارده اشباح مخيفة . .
ونهض من مكانه يدور في أروقة القصر لكأنه يبحث عن شيء وعندما وقعت عيناه على أحد موظفي القصر قال له بحزن :
ـ اين ذلك البساط (4) ؟
وأدرك أيوب قصد الخليفة :
ـ عليه آثار دماء فاحشة . . وقد عزمت أن لا أفرشه من ليلة الحادثة .
قال المنتصر :
ـ لم لا تغسله وتطويه ؟
ـ اخشى أن يشيع الخبر عندما نفرشه ؟
قال المنتصر بمراراة :
ـ وهل تظن ان الحادثة بقيت سراً . . ان الأمر اشهر من ذلك . .
تنفس العلويون الصعداء . . في الحجاز . . والعراق . . ولأول مرة ومنذ اكثر من ربع قرن زالت عنهم هواجس الخوف والتشرد ، وذاقوا حلاوة الأمن والحرية . . وفي هذه الفترة الوجيزة تحسنت اوضاعهم المعيشية ، وشد بعضهم الرحال الى العاصمة سامراء . . خاصة بعد إعادة « فدك » تلك الأرض الزراعية الخصيبة وكانت « حكيمة » شقيقة الامام علي الهادي في طليعة الوافدين وقد جاءت مصطحبة معها ابن الامام الاكبر محمد الذي يكنى بأبي جعفر وله من العمر ثمانية عشر عاماً .
وتمكنت السيدة حكيمة من شراء بيت قريب من بيت شقيقها الحبيب . . وبدا للكثير منهم أن الزمن يبتسم لأبناء علي بعد عبوس طويل . . ولكن الى حين .
فلقد بدا واضحاً أن القادة الاتراك يمسكون بقبضات فولاذية على مقاليد الحكم ، وسكنت حمى النفوذ وشهوة الحكم نفوسهم .
فقد تستحيل همسة في البلاط الى هاجس مخيف ، وكان المنتصر يدرك سوء الاوضاع فاقدم على خطوة جريئة ، عندما
وصلته انباء مؤكدة عن تحركات عسكرية بقيادة الامبراطور تيفوئيل تستهدف اجتياح مدن مصر الساحلية . .
ولذا استدعى وصيف قائلاً له :
ـ ان طاغية الروم يهدد حدودنا بغزو وشيك . . وليس هناك من يستطيع صده إلا أنا أو أنت فما رأيك . . فاما أن تتوجه أنت أو أنا ! !
قال وصيف :
ـ بل أنا !
وهكذا بدأت الاستعداد على قدم وساق في تجهيز حملة عسكرية لصد الغزو الرومي القادم .
وقد ورد في وثيقة الحملة إجراء اثار هواجس « وصيف » وهو ضرورة مرابطة وصيف في الجبهة الشمالية مدة أربع سنين وستكون عودته بتصريح من الخليفة نفسه (5).
وقد لقيت هذه الخطوة ترحيباً من قبل ابن الخصيب بسبب عداء شخصي مع وصيف (6) .
ولكن حالة المنتصر النفسية فيما يبدو كانت تتدهور نحو الأسوأ . . واستحالت لياليه الى كوابيس .
وكان دائم النظر الى السجادة التي شهدت مصرع أبيه يتأمل في بقع الدماء التي لم تفلح المياه في ازالتها تماماً . .
وما ضاعف فجيعته صور ونقوش بالفارسية أثارت اهتمامه وفي إحدى دوائر السجادة الفارسية فارس متوج تحيطه كتابة فارسية فسأل عن معناها . .
قطب المترجم حاجبيه واعتصم بالصمت . . ولكن المنتصر اصر على ترجمتها فقال المترجم :
ـ الكتابة تقول : أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز . . قتلت أبي فلم اتمتع بالملك إلا ستة اشهر .
واجتاحت المنتصر موجة من الحزن المرير ، فجلس عند الصورة فيما غادر الجميع المكان . .
أثارت هذه التصرفات هواجس الاتراك ، فقد ينتقم المنتصر لأبيه وكان ابن الخصيب يزيد من مخاوفهم من وجود « المعتز » و « المؤيد » فهناك ميثاق رسمي يقضي بانتقال الخلافة الى المعتز في حالة موت المنتصر !
وفي مطلع صفر عاد وصيف الى سامراء بذريعة واهية وبدأ التخطيط لدفع المنتصر الى خلع المعتز والمؤيد من ولاية العهد .
في البداية قاوم المنتصر هذه الضغوط ولكنه شعر أن رفضه لذلك سيؤدي الى تفكير الاتراك باغتيال أخويه سيما وأن الظروف السياسية السائدة مواتية .
القي القبض على الاميرين « المعتز » و « المؤيد » ليلاً ونقلا الى حجرة في القصر . .
تساءل المعتز بعدما أغلقت عليهما الباب :
لم تراه أحضرنا ؟!
قال المؤيد الذي أدرك ما يجري :
ـ يا شقي للخلع .
ـ لا أظنه يفعل ذلك !
ـ يا شقي هو نعم . . ولكن هؤلاء الاتراك !
في الاثناء فتحت الباب ليدخل مبعوث رسمي من قبل البلاط ومعه كاتب لضبط وتدوين ميثاق التنازل عن ولاية العهد .
بادر المؤيد للموافقة فوراً :
ـ السمع والطاعة .
ولكن المعتز قال :
ـ لن أفعل ذلك !
لكزه المؤيد قائلاً :
ـ انه القتل اذا لم تفعل !
قال المعتز مخاطباً :
ـ ابلغه بذلك .
ـ اشار المبعوث الرسمي الى جلاوزته ، فانقضوا على المعتز وجره ليوضع في حجرة أخرى . .
سمع المؤيد بكاءً ـ يأتي من الحجرة التي أودع فيها أخوه فصاح بالشرطة :
ـ ماذا تفعلون يا كلاب ؟! دعوني اكلمه .
وجاءت الموافقة على اللقاء ، فدخل المؤيد على أخيه وربت على كتفه فكف عن البكاء . . قال المؤيد :
ـ يا جاهل لماذا تقتل نفسك . . اتظنهم لا يفعلون ذلك وقد قتلوا اباك وهو هو . . .
ـ وماذا تريدني أفعل ؟! اخلع نفسي وقد انتشر ذلك في الآفاق ؟ !
ـ الخلع أفضل من القتل .
سكت لحظات ثم استطرد قائلاً :
ـ اذا كان الله قد كتب لك أن تكون خليفة فستكون نصيبك .
استسلم المعتز .
تم ضبط محضر في تنازل الاميرين اللذين أمرا بتسليم وثيقة التنازل الى الخليفة في حضور القادة الاتراك .
قال المؤيد :
ـ نجدد ثيابنا ؟
قال الموظف المسؤول :
ـ ولم لا . . ولكن هنا . . سوف نحضر ما تطلبان من ثياب !
تم اللقاء في جو متوتراً نسبياً ، سلم الاميران على الخليفة الذي رحب بأخويه . .
تساءل المنتصر :
ـ هذا كتابكما ؟ !
سكت المعتز فقال المؤيد مستدركاً الوضع :
ـ نعم يا أمير المؤمنين .
والتفت الى أخيه قائلاً :
تكلم :
غمغم المعتز :
ـ نعم يا أمير المؤمنين . . كتابي وتوقيعي :
قال المنتصر بشجاعة :
ـ اتظنان انني خلعتكما طمعاً في أعيش حتى يكبر ولدي ؟ !
لا والله .. ولكن هؤلاء ..
وأشار الى الاتراك مستأنفاً :
ـ الحوا عليّ في خلعكما .. فخفت أن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكما ..
وأدرك الأخوان أن المنتصر لا يعرف الخداع ولذا بادرا الى تقبيل يديه لكنه ضمهما الى صدره بحبّ .
وقام رئيس الوزراء الذي كان يبتسم بارتياح بتحرير (7) وثيقة التنازل لتعميمها على جميع ولايات الدولة الاسلامية المترامية الأطراف .
سيطرت حمى الهواجس على القصر حيث يقيم الخليفة الذي مضت على حكمه خمسة أشهر ، وما زالت روحه المعذبة مثقلة بمشاعر الاثم .. وبدأت لقاءات الاتراك تتخذ طابع التوجس من اجراءات الخليفة الذي قد ينقض عليهم في لحظة ما ..
ومن يرى القائدين « وصيف » و « بغا الشرابي » لابد وأن يدرك انهما ما يزالان يحكمان بقبضة حديدية على مصير البلاد ، كما أنه سيكتشف من لقاءاتهما المستمرة أنهما بدءا يتوجسان من « المنتصر » الذي لا يمكن السيطرة عليه .
وكان يثير خوفهما أنه لا يمكن اغتياله فلقد كان « مهيباً » شجاعاً ، فطناً متحرزاً (8) ولذا بدأوا يفكرون بوسائل أخرى (9) .
الرواق الذي اتخذه المنتصر مجلساً له كان مقفراً فقد انطلق الخليفة المعذب ينهب ميدان الخيل بحصانه امعاناً في الفرار .. كان بغا ووصيف يتمشيان خلال أروقة القصر عندما صادفهما موظف في القصر يعمل كاتباً في ديوان جيش الشاكرية (10).
قال الموظف وكان يتقن الفارسية :
ـ ألم يجد الفراش بساطاً غير هذا ليفرشه تحت أمير المؤمنين ؟
قال وصيف :
ـ لماذا ؟!
ـ فيه صورة شيروية قاتل أبيه « أبرويز »
وتبادل القائدان نظرات ذات معنى ، قال بغا بعدها :
ـ يجب أن يحرق حالاً !
لف البساط بسرعة وقبل أن يعود المنتصر ليحرق في حضرة القائدين ، وكانا ينظران الى وهج النار والى الذهب قد بدأ يسيل براقاً تحت السنة النار والدخان (11) .
عاد « المنتصر » من رحلته اليومية منهمكاً ولفت نظره وهو يلج الرواق وجود بساط جديد ..
فاستدعى الفرّاش قائلاً :
ـ أريد أن تفرش نفس البساط :
قال الفرّاش :
ـ ومن أين آتي به ؟!
قال المنتصر :
ـ وماذا حصل له ؟
ـ ان وصيفاً وبغا أمراني بإحراقه .
سكت المنتصر وانطوى على جراح لا تندمل .
وبدا واضحاً خلال تلك الفترة العاصفة ان بغا الشرابي أو بغا الصغير هو الحاكم الحقيقي بالرغم من استبسال المنتصر في استعادة قدرة الحكم ..
وكانت الأمور تجري وفقاً لأهواء القادة الاتراك الذين كانوا يلاحقون شخصيات العهد البائد ..
وكان بعض الاشخاص يختفون في ظروف غامضة ولا يعرف أحد عن مصيرهم حتى « محبوبة » جارية المتوكل الأثيرة لم تسلم من التصفيات فقد استدعيت للغناء فرفضت فاجبرت على ذلك لكنها غنت بلحن حزين وذكرت ليلة اغتيال سيدها ، فأصدر وصيف أمراً بسجنها .
وانقطعت اخبارها من ذلك الوقت (12) !
وفي تلك المدينة التي نسى أهلها الله كان الامام الهادي ينظر الى الأفق البعيد ويرى حمرة الشفق الملتهب .. ويرى سحباً داكنة قادمة .. سوف تغمر الظلمات الأرض .. وقوافل البشر الحائرة وقد تاهت بها السبل .. وفيما كانت أصوات الغناء والموسيقى تتسرب من نوافذ القصور .. كانت تمتمات الدعاء تتعالى من منزل في « درب الحصا » حيث يقطن الامام منذ خمسة عشر عاماً .
عاد كافور الخادم متعباً وقد دفعته نفحات الهواء البارد في تلك الليلة التي اشتد فيها هبوب الرياح الشمالية ، الى أن يدس نفسه في الفراش .. يتوجب عليه في هذا الوقت أن يأتي بسطل من الماء من السرداب واعداد الوضوء لسيده الذي يتهيأ عادة في مثل هذا الوقت لأداء صلاة الليل ..
لكن دفء الفراش وأمنه عقوبة السيد كانا يدفعانه الى تناسي مهمته الأخيرة ..
لم يكن قد أغمض عينيه عندما تناهت اليه خطى تتجه الى حجرته ..
قال الامام بلهجة فيها عتب .
ـ ألا تعرف رسمي ؟ .. أنني لا اتطهر إلا بماء بارد فلم سخنت لي ماء ؟!
فوجىء كافور وقال بدهشة :
ـ ولكن يا سيدي لم آت بالماء أصلاً !!
نظر الامام عبر الباب المشرعة الى السماء وقال :
ـ الحمد لله .. والله ما تركنا رخصة ولا رددنا منحة ..
الحمد لله الذي جعلنا من أهل طاعته ووفقنا للعون على طاعته .
وامتلأت نفس كافور اجلالاً لهذا الانسان الطاهر الذي عبد الله وحده فأكرمه الله بماء دافىء تحمله الملائكة (13) !
مضت ساعة من الليل وتناهت طرقات متواليات على باب المنزل الغارق في سكينة الليل ..
كان الطارق « يونس النقاش » .. يرتجف ولكن ليس بسبب البرد افسح كافور الخادم ليدخل المنزل .. لابد وأن الأمر جدّ خطير !
قال يونس وهو يرتجف :
ـ يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً !
قال الامام :
ـ وما الخبر ؟
ـ عزمت على الرحيل .
مبتسماً قال الامام :
ـ ولم يا يونس ؟
ـ وجه بغا الصغير اليّ بفص ثمين لا تعرف له قيمة وطلب مني أن انقشه فانكسر نصفين .. والموعد غداً وهو من تعرف ياسيدي !! إما ألف سوط أو القتل .
قال الامام مهدئاً :
ـ امض الى منزلك الى غدٍ فما يكون إلا خيراً .
ـ وماذا أقول لرسوله ؟!
ـ اسمع ما يخبرك به ، فلن يكون إلا خيراً .
ابتسامة الامام وعيناه اللتان تتألقان بنور شفاف بعثت الدفء في قلب الرجل الخائف الذي انقلب الى أهله .. انه يعرف الامام يعرفه من سنين طويلة .. رجل مبارك كلما التقاه في الطريق .. يتفتح في قلبه الأمل في الحياة .. ما تزال الدنيا في خير ..
وما يزال هناك قلب ينبض بحب الناس جميعاً .
وفي صباح اليوم التالي .
كان يونس منطلق الوجه قال لكافور وقد استفسره عما حصل :
ـ جاءني الرسول يقول : ياسيدي .. الجواري اختصمن ، فهل يمكنك أن تجعله نصفين ونضاعف لك الأجرة ؟
ـ وبماذا اجبته ؟
ـ قلت له : أمهلني حتى أتأمل كيف أعمله (14) .
وضحكا معاً ، وكان ينبوع يتدفق حباً للإمام .
الجواسيس المبثوثون في القصر وخارجه وهم يعملون لحساب القائد « وصيف » كونوا صورة مخيفة عن « المنتصر » .. هناك خطط مبيته للخليفة تستهدف تمزيق الاتراك في أول فرصة ، وما زاد هذه المخاوف أن المنتصر ربما تحدث ذلك علناً وربما تفجر غضبه المخزون في نظرة شزراء يلقيها كلما رأى قائداً تركياً مرموقاً (15) .
ولذا كان الأتراك قد بدأوا يفكرون في اغتيال المنتصر والفتك به قبل أن يفتك بهم .. ولكن كيف ؟!
سؤال صعب جوابه على الاتراك فالمنتصر من اليقظة والشجاعة ما يصعب فيه اغتياله ولكن هناك نقطة ضعف يمكن استغلالها ان المنتصر يعيش حالة مدمرة من الندم واليأس ولم يكن ينظر الى المستقبل بأمل ، لكن بركان الغضب الذي انفجر في تلك الليلة العاصفة خمد فجأة استحال الى رماد تذروه الرياح .. أنه يعاني حالة مريرة من الندم وهذا ما جعل القادة الاتراك يتوجسون منه .. لكنه لم يفكر في تكوين حرس خاص وكانت سياسته المالية المتزنة وابتعاده عن مطاردة مناؤيه من رجال العهد البائد وعدم امتلاكه لشبكة من الجواسيس سوف يسهل من عملية اغتياله بطريقة ما !
صحيح أن الناس بدأوا يميلون اليه ويحبونه ولكن ما فائدة هذا الحب ما دام الناس لا يملكون سلاحاً للدفاع عنه ولا يمكنهم حراسته أيضاً .. ان القوة الضاربة ما تزال في ايدي الاتراك .. قوات الحرس والجيش ما تزال في قبضة القادة الاتراك .. وكلهم مقتنعون بضرورة التخلص من المنتصر .. باستثناء بغا الكبير فهو الوحيد الذي يعارض ذلك .. لأن الخليفة القوي يساعد في اقرار النظام ومنع الفوضى ..
ولكن « وصيفاً » و « بغا الصغير » كانا يفكران بطريقة أخرى .. ان وجود خليفة ضعيف سوف يضمن للاتراك استمرار نفوذهم .. من أجل هذا كان يترقبان أول فرصة سانحة ..
وما دام كل شيء يباع ويشترى ، والذهب ما يزال يخطف العقول والابصار فلا وجود لشيء مستحيل !
كان المنتصر قد عاد من رحلته اليومية مكدوداً تماماً وبدا أنه قد أمعن في الفرار في الفيافي شرق سامراء وكعادته عندما تجتاحه موجة من الحزن المرير أوى الى عزلته ، والقى بنفسه على وسائد خضراء اللون مشوبه بنقوش حمراء .
كانت نسائم نيسان تدور خلال أروقة القصر وستائر حريرية
شفافة تميل مع النسيم الربيعي المفعم برائحة الورد .. ومع ذلك فقد كان المنتصر يتصبب عرقاً لكأنه يعاني من رؤيا تعذبه (16) .
شاء القدر أن يستيقظ المنتصر وهو يلتهب من الحمى مما استدعى الاتصال بـ « الطيفوري » الطبيب لاجراء فحوصاته .. اشتعلت في رؤوس الاتراك حمى التآمر ..
استقبل القادة الاتراك الطبيب قبل أن يدخل على المنتصر وكانت نظراتهم تحرضه بشكل واضح ، فأطرق برأسه ومضى .. أجرى الطيفوري بعض الفحوصات السريرية ، ونصح المريض بإجراء عملية فصاد للدم ، وتم الاتفاق على أن يجري ذلك بعد العشاء ..
عندما عاد الطيفوري الى المنزل وجد من ينتظر عودته ، كان الرجل التركي الذي يرتدي حلة من الديباج الاصفر ساكتاً .. واكتفى بان قدم ثلاثين الف دينار (17) .. انه اكبر مبلغ يراه الطبيب في حياته يستطيع أن يحيا بقية عمره في دعة من العيش .. يكفي أن يبضع المريض بمشراط مسموم (18) .. لم يصمد الطبيب أمام بريق الذهب ، وضجت نفسه بالوساوس فيما خفت صوت العقل الذي اغتاله بريق الدينار الذهبي ..
تمت الجراحة وقد بذل الطيفوري جهد الابالسة في اخفاء مشاعره أمام نظرات المنتصر الثاقبة ..
وعندما غادر القصر كان الطريق الى منزله تغمره ظلمة
كثيفة وشعر وهو في منتصف الطريق أن هناك من يطارد خطواته ..
لم يشعر المنتصر بأي تحسن ، وعندما تناول كمثرى (19) شعر بألم شديد في معدته ..
أمه تنظر اليه بحزن .. تبكي بصمت شباب ابنها .. لم يكن محظوظاً في الدنيا حتى أبيه كان يتآمر عليه .. وفي مثل هذا العالم المليء بالذئاب لا يعيش إلا من يكون ذئباً ..
قال المنتصر بأسى :
ـ يا أماه ذهبت مني الدنيا والآخرة .. عاجلت أبي فعوجلت (20) !
كفكفت الأم دمعة ثكلى .
ـ لقد كنت بي باراً ومع الناس طيباً .. ومع نفسك صادقاً كل الناس يموتون وقليلون الذين يواجهون الموت بشجاعة .
أغمض المنتصر عينيه وغط في اغفاءة عميقة فانسحبت امه بهدوء بعد أن طبعت على جبينه قبلة أودعتها كل أمومتها ..
في اليوم التالي طلب رؤية ابنه الصغير « عبد الوهاب » فقبله وتمتم بكلمات خافته أن يحميه الله من شرور الذئاب البشرية التي تعوي في قصره ..
وفي مساء يوم السبت الرابع من شوال سنة 248 هـ كان المنتصر يودع الحياة ..
أطل الهلال متألقاً في سماء حزيران الصافية الشاب المسجى ينظر بعينين فيهما أمل وهو يودع الدنيا الى عالم آخر ..
وراح يغمغم بشعر نبع من قلبه الكسير :

فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ولكن الى الرب الكريم أصير (21)

واغمض عينيه ليغفو بسلام ..
وبدأت الاستعدادات لمواراته الثرى حسب المراسم العباسية في دفن الخلفاء سراً .. ولكن والدته أصرت على إعلان قبره ليكون أول خليفة عرف قبره (22) .
وتم دفنه في الجوسق الخاقاني (23) حيث فتح عينيه على الدنيا فكان أول خليفة عباسي ولد في سامراء وتوفى فيها .
كشفت وفاة الخليفة المنتصر عن واقع الخلافة العباسية ومدى تغلغل الاتراك في أجهزة الحكم وسيطرتهم على البلاط العباسي الذي اضحى العوبة بين الضباط الاتراك .
لم يكن المنتصر قد دفن بعد حتى انفجر النزاع بين الاتراك الذين اجتمعوا في القصر الهاروني لاختيار الخليفة الجديد .
وفي يوم الأحد تم تحليف عشرات القادة الاتراك والزنوج وهم عماد الجيش والحرس بقبول الاتفاق الذي سيسفر عن اجتماع كل من بغا الكبير ، بغا الصغير ، ووصيف ، أو تامش أحمد بن الخصيب ، أما باغر الضابط التركي الذي قاد عملية اغتيال المتوكل فقد حرم من حضور الاجتماع فأجج ذلك في صدره مشاعر الحسد والحقد والكراهية خاصة لوصيف فانصرف الى تعزيز نفوذه بين الاتراك ، وتحريضهم على وصيف الذي لا يرى سوى مصالحه الخاصة والأنانية !
كانت فكرة بغا الكبير اختيار خليفة قوي يهابه جميع القادة لأن اختيار خليفة ضعيف سيؤدي تطاحن الاتراك فيما بينهم من
أجل النفوذ والسيطرة والاستحواذ على مقاليد الحكم ولكن أحمد بن الخصيب اقنع الجميع بأن مبايعة أحد أبناء المتوكل يعني نهاية النفوذ التركي فقد يفكر أحدهم بالانتقام منهم ثأراً للخليفة المقتول ..
وهكذا تم الاتفاق على اختيار أحمد بن محمد بن المعتصم .
فالمعتصم هو الذي أسس مجدهم وجعلهم سلاطين في هذه الدولة الكبرى ، وهو ولي نعمتهم .
لم تكن للخليفة الجديد من ميزة سوى أنه العوبة بيد الاتراك ، وفي مراسم عادية منح لقب « المستعين بالله » وحدثت حركة مضادة في سامراء يقودها بعض رجال العهد البائد وترمي الى فرض خلافة المعتز وتعرض موكب الخلافة الى هجوم زمر من المرتزقة والغوغاء (24) ، واستمرت الاشتباكات ثلاث ساعات وأعيد الخليفة الى القصر الهاروني وخلال القلاقل سقط أحد قصور الخلافة في أيدي الناس فنهبت خزانة الدولة ، وسطا الكثيرون على مشاجب السلاح وكسرت أبواب السجن الكبير .
ولكن الاتراك سيطروا على القلاقل باعلانهم عن توزيع المرتبات في مراسم البيعة العامة .
ولم تلبث قوات الجيش والحرس أن فرضت سيطرتها على الأوضاع .. ولكن الاجواء كان يسودها التوتر ..
وظهر المستعين خليفة مغلوبا على أمره يحفه أحمد بن
الخصيب رئيس الوزراء ومجموعة من الضباط الاتراك في طليعتهم أوتامش ، وصيف ، وبغا الصغير في حين غيب باغر التركي الذي انطوى على احقاده وكراهيته للجميع منتظراً فرصة مواتية للانقضاض على خصومه واثقاً من تأييد قطاعات كبيرة من الجنود الاتراك بزعامة « باكيباك » القائد التركي الجرىء .
قام الحكم الجديد بإجراءات احترازية منها القاء القبض على الاميرين المخلوعين المعتز والمؤيد فأودعا تحت الاقامة الجبرية في قصر الجوسق الخاقاني ووضعت عليهما حراسة مشددة ، ثم ارغما على بيع جميع ممتلكاتهما من أرض زراعية وبساتين مقابل أثمان زهيدة .
اما أحمد بن الخصيب فما انفك يحرض على مضايقة الامام الهادي وتشديد المراقبة على منزله بل واجباره على التنازل عن داره وبيعها للدولة (25) !
وبعث أحمد بن الخصيب في تلك الفترة رسالة الى محمد بن فرج يطلب منه الحضور الى سامراء والافادة من خدماته ، كان محمد بن فرج قد اطلق سراحه ، من السجن ولكنه لم يسترد ممتلكاته التي جمدت في عهد المتوكل منذ سنة 432 هـ
وكتب محمد بن فرج بدوره رسالة الى الامام الهادي يستشيره بقبول اقتراح رئيس الوزراء فجاءه الجواب :
ـ « أخرج ، فإن فيه فرجك ان شاء الله » (26) .
وعندما وصل محمد بن فرج سامراء حاول استرداد أملاكه المحجورة وعندما صدر القرار بإعادتها اليه كان قد توفى (27) .
وسقط بغا الكبير في فراش المرض وذهب اليه المستعين لعيادته ، ثم توفى في اليوم التالي وتحققت مخاوفه من وجود خليفة ضعيف ، فقد استحال القادة الاتراك الى ذئاب شرسة يأكل بعضها بعضاً ..
حضر احمد بن الخصيب الى منزل الامام الهادي وهدده اذا لم يتنازل عن الدار وتسليمها اليه ..
وكان ابن الخصيب لا يجرؤ على ذلك في عهد المنتصر وفي حياة بغا الكبير الذي عرف عنه احترامه للعلويين منذ الرؤيا التي رآها قبل اكثر من ربع قرن (28) .
وفي العهد الجديد بدأ العلويون بالفرار مرة أخرى .. وبدأ فصل جديد من مسلسل التشرد المرير .. وفي غمرة الاحداث غادر « علي بن محمد » وكان موظفاً في بلاط المنتصر .. غادر سامراء مولياً شطره صوب البحرين فالاحساء فالبصرة .. وليشعل بعد خمسة أعوام ثورة الزنوج في منطقة الأهوار جنوبي العراق (29) .
بلغ من نفوذ ابن الخصيب حداً جعله متغطرساً في تصرفاته ووصلت به الوقاحة الى أن يتهدد الامام ويطلب منه
تسليم منزله اليه ..
كان ابن الخصيب ووفقاً لتقارير الجواسيس على اطلاع على حجم الأموال التي ترد منزل الامام خاصة في عهد المنتصر ، وكان يعرف جيداً أن الامام يقوم بصرف الحقوق على الفقراء والمساكين الذين تضاعفت اعدادهم بسبب الفواضى وغياب الاستقرار والنهب .
كما أن انتشار الفكر الامامي بدأ يهدد مركز الحكم في العاصمة بعد أن اصبح الامام الشخصية التي تحظى بالاجلال واحترام الناس جميعاً .
قام رئيس الوزراء بزيارة رسمية الى منزل الامام ، الذي خرج لاستقباله فقال ابن الخصيب :
ـ سر جعلت فداك !
فأجابه الامام بكلمات تزخر بالرموز :
ـ « أنت المتقدم » (30) .
وبعد أن استقر به الجلوس ، وأجال نظره في المنزل ، تأججت أعماقه الخاوية بالاحقاد والأطماع ولم يتمالك نفسه أن قال :
ـ لابد من إخلائها وتسليمها اليّ !
نظر الامام اليه بسكينة ووقار .. ان هذا المخلوق التافه يرى قدرته في ، منصبه الخطير مستنداً الى قدرة الاتراك غافلاً عن قدرة الله المطلقة .. قال الامام وقد تجلت أنوار الايمان في عينيه :
ـ لأقعدن لك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية .
وشاء القدر أن يسدد ضربته بغتة لم تمر سوى أربعة أيام فقط حتى أقبل من منصبه إذ رأى القائد أو تامش أن يفرض نفسه رئيساً للوزراء معتمداً على قابليات كاتبه « شجاع بن القاسم » (31) .
أما احمد بن الخصيب فقد صودرت جميع ممتلكاته وممتلكات أولاده ونفي الى جزيرة كريت (32) .
واصبح أوتامش الحاكم الفعلي للبلاد فيما عين « شاهك » الخادم مسؤولاً عاماً لادارة شؤون القصر بما في ذلك الخزانة العامة للبلاد .
اسفرت شخصية أوتامش عن ذئب أغبر (33) يفتك بكل من يقف في طريقه فهو وراء تعيين « شاهك » الخادم في مناصبه الجديدة التي تمكنه من الاستحواذ على خزانة الدولة ..
ودخلت على شبكة النهب والدة المستعين ، أما الخليفة فقد انهمك في الاستمتاع بلذائذه الرخيصة تاركاً تدبير الأمور للوزير الذي تكفل تربية ابن الخليفة والاستحواذ على مخصصاته المالية الضخمة ..
ولم يقف وصيف وبغا مكتوفي الأيدي ، فقاما بتحريض بعض قطعات الجيش من المتضررين ، فحوصر الجوسق الخاقاني حيث يقيم أوتامش وكاتبه .

في البداية حاول رئيس الوزراء الفرار من القصر ولكنه اخفق ، فاستجار بالخليفة الذي رفض ذلك .. حوصر القصر ثلاثة أيام ثم اقتحم في يوم السبت وعثر عليه مختبئاً في قبو وتم اعدامه مع كاتبه وصودرت جميع ممتلكاته (34) .
وفي يوم الخميس الثالث من جمادى الأولى سنة 249 هـ 14 حزيران 863 م تحركت قطعات عسكرية من الزنوج المغاربة ورابطت عند الجسر ثم تفرقت في اليوم التالي .
وفي 16 تموز من الذي يصادف يوم الجمعة 25 جمادي الأولى اشتعلت البروق في سماء مثقلة بغيوم مشحونة وهطلت الامطار بغزارة طوال اليوم ؛ ثم سكنت الطبيعة بعد اصفرار الشمس قبيل الغروب (35) .
وفي غمرة الفوضى والفساد اشتعلت ثورة علوية كبرى بقيادة يحيى بن عمر من ذرية زيد الشهيد بشعارها المتألق « الرضا من آل محمد » وكانت الكوفة مخزن الثوار على مدار الزمن مركز الثورة ، وسرعان ما امتد لهيبها الى بغداد بعد أن تعاطف أهل السنة مع الثائر العلوي الذي بدأ اصلاحاته باطلاق السجناء في الكوفة .
واصبحت الثورة أملاً بالخلاص من ليل العباسيين الطويل ..
ولكن غياب الخبرة العسكرية وفنون الحرب النظامية قد حسم الصراع لصالح العباسيين بالرغم من الانتصارات الباهرة
التي أحرزها الثوار .
وكان دخول رأس يحيى على رمح طويل مدينة سامراء يوم حداد عام (36) فيما عم الاستياء مدينة بغداد ، وكانت الكوفة تغلي غضباً .
تصدعت الجبهة التركية واستشرت حمى الاطماع والتآمر واستحال الضباط الاتراك الى ذئاب يتربص أحدها بالآخر .
وفي الخفاء كان هناك صراع مرير يجري بين مساعدي الاتراك من اليهود والنصارى للحصول على المزيد من الأسلاب وظهر باغر كذئب أغبر لا يتورع عن الفتك بكل من يقف في طريقه ، وشاء القدر أن تصطدم المصالح والمنافع الشخصية بين « بغا الشرابي » و « باغر » وكانت نقطة الاصطدام في الكوفة . فقد دس وكيل باغر اليهودي على ابن مارما النصراني وتآمر عليه فزجه في السجن ، وفر ابن مارما فيما بعد متجهاً صوب سامراء ، وكان دليل بن يعقوب يعمل كاتباً لبغا فاستغل نفوذ بغا في منع باغر من الانتقام من ابن مارما .
وكان باغر ضابطاً يعمل تحت امرة بغا ، ولكن الأخير كان يخشى باغر ؛ ويحاول ارضاءه .
وبدأت الحوادث بالانفجار عندما جاء باغر سكران ليدخل على بغا وهو في الحمام وهو يتهدد « دليل بن يعقوب » بالقتل ، قال بغا مدارياً الضابط الشرس :
ـ لو أردت أن تقتل ابني فارس ما منعتك فكيف امنعك من قتل دليل ؟!
ـ إذن دعني اقتله !
ـ ان شؤون الخلافة بيده .. دعني أولاً أعين شخصاً آخر يقوم بعمله .
قال باغر بلغة تركية وهو يصر على أسنانه :
ـ لابد من قتله !
سكت بغا ولم يعلق على ما قاله باغر الذي انصرف وهو يترنح سكراناً أوعز بغا الى كاتبه دليل إلا يغادر منزله فقد يتعرض للاغتيال ، كما قام بتعيين شخص آخر ليوهم باغر بعزل دليل عن مسؤولياته .. وحاول أن يصلح العلاقات بين باغر ودليل .. ولكن باغر ما انفك يتهدد دليل بالقتل .
قرر باغر أن يكون له مقر في البلاط ويكون ضابطاً ثابتاً في قصر الخلافة ، ووافق المستعين على مضض خشية من أن يقوم باغر باغتياله ..
وتصاعدت حمى التآمر عندما طلب المستعين من وصيف ترقية باغر ليكون المسؤول عن ادارة شؤون البلاط وأن يكون له دور « ايتاخ » في عهد المعتصم .
وشعر دليل بالخطر فحرض بغا على التدخل لأن السماح
بذلك يعني نهاية « بغا » .
وعلى وجه السرعة قام بغا بزيارة مفاجئة للقصر ، وندد بموقف وصيف الذي أبدا استعداده للوقوف الى جانب بغا ، واتفق القائدان سراً على اغتيال « باغر » في أول فرصة .
انتشرت شائعات حول نية القصر بترقية باغر الى رتبة أمير ، وستضاف الى قواته قطعات أخرى من الجيش .
ولكن باغر شعر بان هناك من يتآمر ضده في الظلام فاجتمع سراً بأنصاره وكان بعضهم قد اشترك في عملية اغتيال المتوكل فعاهدوه على الوفاء له ، واستقر رأيهم على القيام بحركة انقلابية تسقط فيها رؤوس كثيرة في طليعتها رأس الخليفة ورأس وصيف وبغا ثم تعيين خليفة آخر من أولاد المعتصم أو الواثق يحكمون باسمه !
وتسربت الأخبار الى المستعين عن طريق زوجة باغر المطلقة والتي باحت بذلك الى المستعين !
وشعر الخليفة الضعيف بالرعب فاجتمع بالقائدين وصيف وبغا الذي وصلته الانباء عن طريق آخر .
واسفر الاجتماع عن تعيين موعد لاغتيال « باغر » في قصر « بغا » بسبب تردد باغر على القصر كجزء من واجبه كضابط ما يزال يخدم تحت إمرة « بغا » !
وسقط باغر في الفخ فاعتقل وسجن في الحمام .
وطارت الأخبار المثيرة الى جنوده الذين هبوا لنجدته وحدثت الفوضى في سامراء بسبب عنف التحرك في الكرخ وحركة الجنود المتذمرين الى الجانب الايمن من النهر .
وقام الجنوج باحتلال ونهب بعض قصور الخلافة وحوصر قصر الجوسق الخاقاني .
ولتحطيم هيبة الجنود المشاغبين أمر وصيف بقتل باغر .
وكان المستعين قد لجأ الى قصر وصيف المطل على الشاطىء .
وتضعضعت معنويات الجنود الذين رأوا بأعينهم رأس باغر الضابط العملاق ، لكنهم اصروا على المرابطة مطلقين صيحات بالتركية تتهدد الجميع .
قرر وصيف وبغا اصطحاب الخليفة والهروب الى بغداد فاستقلوا « حراقة » راسية في النهر وانحدروا الى بغداد .
سيطر الجنود الثائرون على سامراء ، ونهبت بعض القصور وقطعوا كافة الاتصالات مع بغداد .
وظهر « بايكباك » و « كلباتكين » و « ارناتجور » قادة للحركة العسكرية الجديدة .
وعندما اطل عام 251 هـ كان الوضع ينذر بوقوع كارثة ، خاصة عندما حاول المستعين تعبئة قوات من الزنوج المغاربة ضد الاتراك المتمردين ؛ أدرك القادة الاتراك في سامراء أن مصيرهم سيكون
مجهولاً ، ولذا قرروا ارسال وفد برئاسة القائد « بايكباك » لتقديم اعتذار للخليفة واقناعه بالعودة الى العاصمة وكادت المفاوضات بسفر عن نتيجة مرضية ولكن « بايكباك » تلقى صفعة بسبب تعديه اصول اللياقة في مخاطبة مقام الخليفة ، فعاد الى سامراء وهو يضمر الانتقام من الجميع .
دخلت الاوضاع مأزقاً خطيراً باقدام الاتراك على رفع الاقامة الجبرية عن المعتز واعلانه خليفة بدل المستعين الذي أعلنوا عن خلعه !
وفي هذه الفترة العصيبة ظهر رجال عهد المتوكل لتعزيز موقع المعتز الذي يمثل امتداداً لسياسة أبيه ، وبدأت في سامراء تعبئة جيش كبير للزحف على بغداد التي بدأت هي الأخرى تستعد للمقاومة باقامة خطوط دفاعية واستحكامات كلفت الخزانة مبالغ طائلة .
قام المعتز بمصادرة ممتلكات اقرباء المستعين لتعزيز ميزانية الحرب ، ووقف اليهود الى جانبه بزعامة « الديزج » الذي عين قائداً للشرطة !
كما عُين أحمد بن اسرائيل رئيساً للوزراء لادارة شؤون البلاط والخلافة واصبحت فكرة الزحف لاحتلال بغداد وشيكة التنفيذ لجأ المستعين الى قصر محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد وشرق ايران واصبحت دفة الأمور في يد الحاكم الذي كان يعيش شكلاً من التردد بين مناصرة الخليفة الهارب أو الوقوف الى جانب المعتز ابن المتوكل الذي تربط اسرته معه صداقة قديمة ..
وعملياً كان ابن طاهر يقود حركة الدفاع فاتخذ الى جانب بناء خطوط بغداد الدفاعية اجراءات لعرقلة الزحف القادم من الشمال .
تم تدمير جميع القناطر على كل الانهر المحيطة ببغداد وفتح الانهار لاغراق الأراضي التي تقع في تقدم الاتراك اذا ما راموا الزحف من جهة « الانبار » .
اما بغداد فقد باتت محصنة بسورها الكبير الذي امتد من « الشماسية » شمال بغداد الى « سوق الثلاثاء » الى دجلة ومنها الى « بساتين زبيدة » ، كما استكمل حفر الخنادق على امتداد السور الطويل واصبحت المجانيق الصغيرة والكبيرة جاهزة لاطلاق حممها الملتهبة ، اضافة الى عشرات العوارض المجهزة بمسامير طويلة .
وكان المنجنيق الذي يدعى بـ « الغضبان » رابضاً أمام باب كبيرة معلقة .
كما عبأ ابن طاهر عياري بغداد وهم عشرات الألوف ورصد لهم مكافآت ومرتبات مغرية اضافة الى استخدام مئات المرتزقة .
وهكذا سيطرت أجواء الحرب على الحياة في بغداد وبدأ ارتفاع الاسعار في المواد الغذائية .
وفي مطلع « صفر »251 هـ زحفت قوات الاتراك بقيادة أبو أحمد بن المتوكل العامة فيما كان « كلباتكين » القائد الميداني الذي يصمم وينفذ خطط المعارك القادمة .
وخلال الزحف دمّرت القرى الواقعة في الطريق واستولى الاتراك على جميع المحاصيل الزراعية .
وفي السابع من « صفر »نقل الجواسيس نبأ وصول القوّات الزاحفة المنطقة المتاخمة للشماسية في أطراف بغداد .
كما أفادت تقارير أخرى عن وجود خطة لاحراق الاسواق في جانبي تقارير أخرى عن وجود خطة لاحراق الاسواق في جانبي بغداد ، فتم كشطها جميعاً .
وفي يوم الثلاثاء 10 صفر قام ابن طاهر القائد العام لقوات الدفاع عن بغداد بحركة لاستعراض قواته أمام الاتراك لارهابهم مصطحباً معه مجموعة من الفقهاء والقضاة لايفادهم الى أبي احمد والتفاوض معه حول تفادي وقوع الحرب مقابل اعلان
« المعتز » وليا للعهد ولم تجد هذه الخطوة شيئاً ، فيما قام الاتراك المرابطون قرب الشماسية باستفزازات لتفجير الوضع ولكن ابن طاهر اصر على عدم الرد .
وتقدم بعض الفرسان الاتراك صوب الباب ووجهوا زخة من السهام اكتفى قائد الحامية بالرد عليها بقذيفة منجنيق قتلت أحدهم فانسحب الباقون .
وفي نفس اليوم وصلت تعزيزات من عدة مئات من المرتزقة بغداد للاشتراك في حرب الدفاع .
وصعد الاتراك في اليوم التالي الموقف بتكثيف هجماتهم على باب الشماسية وبات واضحاً أن المعارك الرئيسية سوف تشتمل في هذه المنطقة فارسلت تعزيزات اضافة مؤلفة من الفرسان والمشاة .
وفي أول اشتباك عنيف سقط عشرات الجرحى والقتلى في صفوف الفريقين .
وقامت كتائب من الاتراك بمحاولة لاقتحام بغداد من باب خراسان في الجانب الشرقي فاخفقوا .
ولم يحدث في نهر دجلة أي اشتباك يذكر .
وفي « قطربل » تقدم الزنوج بقيادة ربلة المغربي الذي كان يقود قوات من « الفراغنة » أيضاً واتخذت القوات المتقدمة مواقعها قريباً من الدفاعات ، وحدث تراشق عنيف بالسهام .
وقامت القوات المدافعة بغارة ليلية جريئة فاكتسحت المناطق المحتلة ورمى الجنود الفارون انفسهم في دجلة لعبور النهر الى معسكر أبي أحمد في الجانب الشرقي ، ولكن « التيارات » المشحونة بالمقاتلين قطعت عليهم الطريق فتم أسرهم فيما غرق الباقون .
وقد أدى هذا النصر الساحق الى أن يغير الاتراك الزاحفون خططهم وعندما وصلت انباء هذه الهزيمة الى سامراء انتعشت آمال الناس وحدثت حركة شعبية مضادة لخلافة المعتز (37) .
وكان سير المعارك والاشتباكات يسير لغير صالح الاتراك . وفي غمرة الحرب الاهلية وتدهور الاوضاع الاقتصادية اندلعت سلسلة من الثورات العلوية ، في « اردبيل » و « الري » وثورة في مكة وفي الكوفة وفي قزوين وزنجان .
تبادل المتحاربون النصر والهزيمة وكانت أمطار آذار تخفف من حدة الاشتباكات التي حصدت عشرات الأرواح من السكان ، وظهر عبيد الله بن يحيى وزير المتوكل في بغداد بشكل محيّر وليلعب دوراً في تمزيق جبهة بغداد بعد أن اقنع ابن طاهر بالتخلي عن المستعين مؤكداً له أن الأخير يتآمر عليه بل أنه طلب من وصيف وبغا اغتياله والقضاء عليه .
وقد كان لهذه الخطوة اضافة الى تدهور الاوضاع الاقتصادية وغلاء الاسعار وتذمر السكان من الحصار أثراً كبيراً في تحرّط ابن
طاهر وضغطه على المستعين للتنازل عن الخلافة وقد حصل ذلك بعد انشقاق بغا ولجوئه الى المعتز .
وفي شهر ذي الحجة 251 هـ شتاء عام 866 م وقع المستعين وثيقة التنازل مقابل ضمان سلامته وأفراد اسرته وسلم حلة الخلافة ليغادر بغداد منفياً الى مدينة واسط العراقية .
وأطل عام 252 هـ فيما كانت رياح كانون الباردة تلفح الوجوه ورعود الثورات تدوي في كل الآفاق ، وبدا تمثال الفارس حائراً لا يدري أين يشير برمحه الطويل 38 ؟!
وتصاعدت في هذه الفترة المتفجرة وتيرة الاغتيالات ، التي تحدث لأقل الشكوك .
وظهرت « قبيحة » أم المعتز كذئبة مجنونة تريد الانتقام من الجميع ولم يكن المعتز الذي ناهز التاسعة عشرة من عمره سوى أداة طيعة في يدها وأيدي القادة الاتراك الذين أثروا ثراء فاحشاً في الحرب الاهلية .
ولعب الجواسيس دوراً في انتشار الرعب ، وانعدام الثقة .
وكانت أم المعتز تدير شخصياً شبكة مرعبة من الجواسيس وفي ضوء التقارير الصحيحة والكاذبة تسقط الرؤوس ويموت الناس في ظروف غامضة .
كان المعتز قد زج بأخويه في السجن « المؤيد » و « طلحة » الذي قاد الزحف على بغداد وحصل على لقب « الموفق » .
استدعى المعتز « بغا الشرابي » حول معلومات تفيد بعزم الاتراك على اطلاق سراح المؤيد من السجن .. ولكن بغا الشرابي نفى ذلك بشدة مؤكداً ان الاتراك يكنون احترامهم فقط لقائد الحملة على بغداد !
وفي مدينة « بلد » توفى أحد ابناء الامام الهادي في ظروف غامضة ، وكان « محمد » الذي يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة قد غادر سامراء مفضلاً العودة الى المدينة المنورة (39) .
وقد هزت الحادثة الأسرة الطاهرة ، فلقد كان ذلك الشاب النبيل محط الآمال 40 ؛ خاصة الذين عرفوه وعرفوا اخلاقه الكريمة .
وسرعان ما توفى المؤيد في سجنة ورتب محضر رسمي في أن الوفاة كانت طبيعية !
كانت « قبيحة » تصر على تصفية « المستعين » المخلوع ، فصدرت أوامر شخصية من المعتز الى « أحمد بن طولون » حاكم « واسط » باغتياله الذي رفض ذلك ، لكنه وافق فيما بعد على ترحيله الى سامراء .
وفي « سامراء » تم تسليمه الى « سعيد الحاجب » .
ولم يمهله سعيد وقتاً فأهوى عليه بالسيف ليتدحرج رأسه قرب النهر .
كان المعتز يلعب الشطرنج عندما جاءوا اليه برأس ابن عمه فلم يلتفت اليه وقال وهو يشير الى رف .
ضعوه هناك حتى انتهي من « الدست » (41) .
واكتفى بنظرة عابرة ثم أشار الى حرسه بأخذه .
وصدر « عفو رسمي » عن وصيف وبغا بعد مساع قام بها اسماعيل بن « قبيحة » وشقيق المعتز وضغوط الاتراك (42) .
وتم تنصيب اسماعيل ولياً للعهد (43) .
كما توفى « زرافة » أحد المؤيدين لحركة المنتصر بعد نجاحها (44) .
وبدا واضحاً أن هناك حرباً خفية للسيطرة على البلاط .
وارتفعت حمى الاغتيال وسيطر جو المؤامرات على سامراء .


الكاتب كمال السيد، وللرواية بقية شهية ...

19 يوليو 2009

كتبت في وصيتها أنها رأت شيئاً عظيماً لا يمكن وصفه !

كتب قاسم متيرك

رأت الموت مقبلاً نحوها، تأملت بصمت السواد الكالح الذي يضج بصوت الانفجارات المدمرة، لم يكن يشبه أي شيء رأته في حياتها القصيرة من قبل، أدركت في تلك اللحظة أن ملاك الموت سيخطف روحها برفق، وتمنت أن يفعل ذلك قبل أن ترمي الطائرة المغيرة صواريخها فوق منزل أبو أحمد في عيناتا.
تركت زهراء ملاك الموت ينتظر حصول الغارة بعيون دامعة، وجلست في الزاوية تكتب وصيتها حتى آخر حرف، ثم نامت على ركبة والدتها المنشغلة بدعاء التوسل إلى الله، كما كانت تفعل وهي طفلة.
نامت بنفس مطمئنة على ترتيل آيات من القرآن الكريم تردده شفاه ذابلة في غرفة لا تشبه الملاجئ سوى أنها تحت مستوى الأرض. كانت تعلم أنها ستنتقل بعد قليل إلى رحمته تعالى، كما قالت في وصيتها التي عثروا عليها في ثوبها الشرعي.
فرق الإنقاذ والأهالي الذين وصلوا إلى عيناتا في صباح اليوم الأول بعد دقائق من سريان وقف الأعمال العدوانية الإسرائيلية، عثروا تحت أنقاض أحد المنازل مقابل الحسينية على جثة زهراء فضل الله (17 عاماً)، ووالدتها أم كريم، وزوجة شقيقها أمير، وفي حضنها طفلها الوحيد والمدلل خضر (3 سنوات).
لم يكن أبو كريم فضل الله يدرك وهو يراقب بقلب محروق انتشال الأحبة، أن هذه الغرفة التي نقلهم إليها قبل أيام ستتحول إلى قبر لزوجته ولابنته زهراء وزوجة ابنه وحفيده. وحتى عندما انقطع الاتصال بينهم لم يكن يتوقع موتهم، كان يعتقد أنهم نزحوا إلى مكان آمن. فهو الذي رفض النصائح بمغادرة منزله المستهدف، لكنه، وعلى الرغم من الغارات ظل يتفقدهم يومياً حتى في اليوم الرابع عشر للعدوان عندما منعه القصف "النازل متل الشتا" على الضيعة من الوصول إلى حي الحسينية، يومها هدمت "إسرائيل" "نص عيناتا" تمهيداً لاحتلالها بالدبابات ظناً منها أنها تمكنت من القضاء على المقاومة فيها.
لا يعرف أبو كريم كيف تجاوز أنقاض البيوت، مستغلاً يوم الهدنة، ووقف ينادي زوجته، وابنته زهراء "يا بيي يا زهراء، يا أم كريم، يا جدي يا خضر". كرر النداء حتى اختنق صوته من البكاء والغبار، وأنهكه التعب وهو يقلب الحجارة ويبحث عن منفذ للغرفة. بعض الأهالي الذين كانوا يغادرون قالوا له "نحنا شفناهم هربوا، يلاّ اهرب".
ونزولاً عند رغبة الرجال، غادر أبو كريم عيناتا على وقع دوي القصف المدفعي المتقطع الذي كان يستهدف ما تبقى من بيوت فيما طائرات التجسس تكثف تحليقها بحثاً عن مقاومة لا تموت.
بعض النساء الذين جهزوا "زهراء" إلى مثواها الأخير، وجدوا محفظتها في "جيب ثوبها"، وعثروا بداخلها على أوراق كثيرة منها وصيتها التي كتبتها في تلك الليلة بعدما رأت الموت مقبلاً نحوها.
لم تذكر زهراء تاريخ كتابة الوصية ولا يومياتها في الملجأ، لكنها كتبت بلغة الشهداء، وأبجدية الجنة وبلاغة الرؤيا، وفصاحة الإيمان "أن الموت آت آت"، وبات قريباً جداً منها. جلست "تنتظر لحظة الاستشهاد" بالتسليم الرباني، فموعدها مع الملكوت الأعلى بات قاب قوسين أو أدنى، ربما أدركت وهي تواجه سكرات الموت ان جسدها يمنع روحها من الصعود إلى ربها بسرعة العشق المتفجر في قلبها، ذلك تمنت "ان يتمزق جسدها إلى أشلاء".
كأن زهراء رأت ما وعد الله به الشهداء، "رأت شيئاً عظيماً لا يستطيع أي إنسان وصفه"، وقبل أن تختم وصيتها التي افتتحتها بـ"بسم الله قاسم الجبارين"، طلبت من كل من يعرفها المسامحة وخصوصاً والدتها ووالدها، ووقعت الوصية باسم اختارته لنفسها وهو "كربلاء".
لا أحد يعرف، ما الذي جرى مع زهراء قبل انتقالها إلى مراتب العظماء؟. وكيف تمكنت في الليل، داخل غرفة مظلمة يتهددها الطيران الإسرائيلي بالتدمير من كتابة وصيتها؟. لا أحد يعرف، من استشهد قبل الآخر، زهراء أم شقيقها أمير الذي انضم إلى رجال المقاومة، وشارك في صيد الدبابات الإسرائيلية وهي تحاول الدخول إلى عيناتا وبنت جبيل؟.
لا يوجد إجابات شافية، عند أبو كريم، ولا عند رجاء شقيقة زهراء التي لا تزال إلى اليوم تجمع أخبار عائلتها الفقيدة من أهل الضيعة، من الذين صمدوا حتى يوم الهدنة. فالخبر الأكيد هو أن "أمير" ترك زوجته وابنه الوحيد خضر مع والدته وأخته زهراء وتوجه إلى مربع الصمود ولم يعد إلا شهيداً. ومن الصعب الجزم ما إذا كان "أمير" عرف باستشهاد زوجته وطفله، أو العكس.
بعض الذين نصحوا "أم كريم" مغادرة الضيعة قبل الهدنة بيومين أو ثلاثة، والنزوح إلى بلدة رميش المجاورة مشياً على الأقدام، قالوا إنها رفضت أن ترفع راية بيضاء حتى وهي تسير إلى نجاتها، وكانت تسأل أهل النصيحة: بأي عين بدكن ترجعوا حاملين الريات الصفرا منتصرين"، في تلك اللحظة خيرت زهراء نفسها بين أمرين، وسمعوها تقول "نموت في عيناتا ولا نستسلم"، وعادوا إلى غرفتهم يحتمون من الغارات ويعالجون جريحاً لجأ إليهم.
خلال الحرب، وخصوصاً في الأيام الخمسة الأولى، انتقلت زهراء مع والدتها من بيت إلى بيت، بعدما كانت الطائرات تدمر كل منزل يلجأون إليه، كانت مع والدتها تعجن الطحين وتخبز في النهار وتوزعان الخبز على الجيران في الليل، وتحرص زهراء على وصول خبزها للمجاهدين في مواقعهم، تعلمتا كيف تضللان الطائرة، وتتجولان حتى أثناء القصف. وفي آخر اتصال هاتفي أجرته زهراء مع شقيقتها رجاء في بيروت قبل انقطاع الخطوط الهاتفية أكدت لها انها "مش خايفة، لأن الشباب ناطرينهم، بس بدي إطمن على الكبير(تقصد سماحة السيد نصر الله)، نحنا مش عم نسمع الأخبار"، فردت رجاء "هدوا بيته، وبناية شغله، بس هو بخير، وكمان دمروا بارجة إسرائيلية بالبحر مقابل بيروت".

قبل 12 تموز كانت زهراء تستعد للانتقال إلى بيت الزوجية. حددت منتصف أيلول موعداً للعرس، ووعدها خطبيها "فادي" الذي يتابع تخصصه في الفندقية بعرس "ما شافت عيناتا مثله". واختارت بنفسها أثاث البيت، غرفة النوم، الصالون، البراد، ووضبت جهازها وأغراضها، ولم تنس لعبتها المفضلة، وصديقة طفولتها، وحافظة أسرارها التي أشترتها لها والدتها قبل عشر سنوات من سوق بنت جبيل، ووعدت زهراء لعبتها في خلوة بينهما أن تعرفها على ابنتها "بس أكبر وأتزوج".
ولدت زهراء في عيناتا وعاشت فيها طفولتها، لم تغادرها إلا للمشاركة إلى جانب والدتها في تشييع جثمان شقيقها أحمد الذي استشهد عام 1999 وهو يستعد لاقتحام موقع حداثا، في ذلك اليوم لم تكن زهراء ابنة السادسة من عمرها تدرك معنى الشهادة، ولم تكن تعرف الكثير عن أحمد الذي أجبره الاحتلال الإسرائيلي والمتعاملين معه على ترك البلدة.
عندما عادت زهراء إلى عيناتا، بعد أيام على دفن شقيقها الشهيد أحمد، لجأت في ليلة حزينة إلى بيت الجيران بعدما اقتحمت قوات الاحتلال بيتها، واقتادت والدتها إلى معتقل الخيام ووالدها إلى مركز الـ 17 في صف الهوا. بكت تلك الليلة، فهذه كانت هي المرة الأولى التي تنام فيها بعيدة عن حضن والدتها الحنونة، وشكلت هذه الحادثة منعطفاً في حياة زهراء، التي بدأت تميز جيداً بين الاحتلال والمقاومة.
بعد التحرير، في أيار من العام 2000، ولدت زهراء من جديد، التقت العائلة تحت العريشة أمام البيت في عيناتا، وكان الشهيد أحمد أول العائدين إلى البيت، وضعت له أم كريم صورة كبيرة في الصالون ووزعت صوراً صغيرة في كل البيت "حتى يضل أمام عينها". انضمت زهراء إلى كشافة الإمام المهدي(ع)، وصارت صبية تشارك في المناسبات، مجالس العزاء "أخذ الخاطر بالحسينية"، دعاء كميل.

لم تنبش "رجاء" كل ذكريات الشهيدة زهراء، لكن بعض الصور تحكي عن بنت صغيرة وحلوة ودلوعة أمها لأنها "آخر العنقود"، كبرت بين يوم وليلة، كانت تحب الأرض والناس ووالدها وأمها وإخوتها، ومن بين الصور، صورة تقف فيها إلى جانب خطيبها فادي مع سماحة السيد نصر الله الذي عقد قرانهما، وفي صورة نادرة بعد التحرير ارتدت ثياباً عسكرية وحملت رشاشاً كدليل على حبها الكبير للمقاومة. بدت في كل مراحل حياتها متحمسة جداً، وعاتبة أيضاً على احتكار الشباب للشهادة، وهي ذكرت ذلك في وصيتها، وتمنت إفساح المجال أمام الفتيات للاستشهاد.
تعرفت على خطيبها فادي قبل سنتين من الحرب، ولفادي تركت زهراء في محفظتها عبارة على ورقة اقتطعتها من دفتر الحساب تقول "فادي بدي قول شغلي صغيرة، ولكن معناها كبير: أنا بحبك مهما صار، ورح يصير".
وجدت رجاء في محفظة زهراء أيضاً إلى جانب الوصية وصورة فادي، مفتاح بيتها الزوجي الذي كانت ستنتقل إليه في أيلول، وصورة "للسيد حسن، والشهيد السيد هادي"، وصور أخرى "للسيد عباس الموسوي"، ولشقيقها الشهيد أحمد، كما وجدت دعاء الجوشن الكبير وزيارة أهل الايمان والحصن الحصين، ودعاء الوحدة، وإخراج قيد عائلي وبطاقة صحية، وكانت لا تزال تحتفظ بمنشور إسرائيلي يتوعد أهل عيناتا بالموت والدمار، ويطلب منهم إخلاء الضيعة فوراً. كما وجدت رجاء بين كل هذه الأوراق قصيدة كان قد كتبها لها قبل سنة، بخط اليد، عمها الشاعر علي فضل الله بعنوان:"زهراء يا كوكباً في السما".

2 يوليو 2009

عفوا ياصغيري !



لست معارضاً لاحمدي نجاد كي يقام لسجنك او يقعد

لست من فراخ الدجال ليثور الدم من اجلك او يجمد

رمينا يوسف الامس بالجب ... وبعناه بثمن بخس

وافترينا على الذئب.

على من نرمي جريمتنا اليوم يا يوسف ؟!

على من ؟!



يوسف طفل فلسطيني عمره اليوم 17 شهراً، ولد في الاسر ، ولايزال في الاسر حتى الآن .

"أسرى سجن «هداريم»، المجاور لسجن «هشارون» للأسيرات، قد كسبوا قضية ضد إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، للسماح لهم بإدخال الألعاب إلى الطفل يوسف الزق، بعد شهور من منع الإدارة السماح بإدخال أي ألعاب أو مستلزمات له ".
اخوة يوسف العربي مشغولين ... مهمومين ... يتناقلون قميص يوسف الذي "اكله" الذئب الايراني .
اخوة يوسف العربي
من قميص عثمان الى قميص يوسف
اطال الله نومتكم
يامن لا تفتقده الشمس، لانها لم تراه يوماً.


http://www.al-akhbar.com/ar/node/145337