23 أكتوبر 2008

عدوي لست قدوتي ! قصة مستوحاة من عملية الشهيد الحي




اغمض عينيه مرارا قبل ان يسمرهما على الطريق، حيث يبدو مشهد الصيد القادم اجمل من ان يصدق ، رتل من السيارات المعادية يقترب بوضعية مثالية للتفجير ، آليات يفصل بينها امتار، مدرعة بتدريع سميك ولكن زجاجها المضاد للرصاص لن يصمد امام عصف الانفجار. تحسس بشاهده زناد المفجر لتتصاعد برودة المعدن سلام على قلبه المثقل ورأسه المتعب . كان على ثقة من امره عندما اختار هذا الطريق، ولم يلق بالا لسنته الاخيرة في كلية الاعلام. مشهد اهله يرحلون مع النذر القليل من حاجاتهم تحت وطأة القصف الهمجي، جعله يدرك ان قماشة الوطن تضيق وقريبا لن يجد منها ما يخط عليه مقالاته وتحقيقاته الصحفية ، يومها استبدل قلمه ببندقية وتمترس مع رفاق صفه وآخرون بمبنى الكلية يتصدون للاجتياح الاسرائيلي، وتحول ناقل الخبر المتدرب الى صانع خبر بامتياز!. لم يكن الشك في اختياره منهج المقاومة سببا في همه، ولم يكن لضراوة الجغرافيا وقسوة الشتاء في جبل عامل يدا في تعبه ، كان اختصاصه القديم يدفعه دفعا لقراءة الصحف، ومشاهدة البرامج السياسية ،وكان هذا النهم هو كل الترف الذي يحظى به في اجازته من العمل المقاوم . كانت ليلة الامس للجزيرة واتجهاها المعاكس، زاهر الخطيب بلحيته النبيلة ولغته الرفيعة وحرصه على توثيق واسناد حديثه الى المراجع الملائمة، الامر الذي جعل من حافظة اوراقه شنطة مطهر كما سماها زميله في البرلمان اللبناني في مقابل المراسلة العسكرية لروزاليوسف بكل ماتحمله من "ثقافة عسكرية" وبعد استراتيجي ومعرفة تكتيكية وديمغرافية ، كانت وريثة مراسلي النكبة ومذيعي النكسة تنادي بلبننة المقاومة على اساس ان من يقوم بها اجانب ، ونادت بتزويدهم بصواريخ البي 7 كي لا تظل مقاومتهم عبثية وغير مؤثرة "في الوقت الذي يلهو اطفال لبنان بهذا السلاح ويستخدم من قبل بعض الاجهزة الامنية لفض النزاع بين محازبين تيوس لا يكاد يؤثر فيهم صوته الراعد" وتحدثت بشهامة عربية مألوفة عن نوايا العدو السلمية التي ينغص صفوها انين الجرحى وزئير القتلى وهم يسلمون الروح تحت وطأة صواريخه وقنابله المسالمة !. نام بغيظه ليلتها، واستيقظ الى سكينة مصلاه رافعا يديه بالدعاء للنائمين من امته باليقظة وللراجين رحمة عدوهم باليأس وللطامعين في فضل الافعى سرعة الشفاء ، لديه المزيد من الوقت قبل ان يرحل الى حيث احترف شفاء الغيظ ومضت القنوات وهي تظهر و تغيب تبعا لحركة اصابعه الباحثة عن تسلية في الوقت الضائع ظهر عنوان تحت بروفيل ضيف لصباحية احدى القنوات استوقفه التخصص فالضيف معرف عنه كمسؤول الشؤون الدولية في صحيفة يومية لا تعجبه ولا يقرأها برغم انتشارها الواسع ، كان يرى فيها مثالا للرأي الذي يقولب الخبر على هواه وهو عاشق للمهنية بطبيعته، وعلمته سنوات الصراع مع عدو بارع في حرفته ان يحترم التخصص ، جلس وانصت واجتاحته موجة من الضحك الهستيري .. علا جرس الباب يؤذن بقادم ... اسرع الى الباب وفتحه وأتكأ عليه وهو لا يتمالك نفسه من الضحك سرت العدوى الى زواره وهم رفاقه الى الجبهة اومأ الى التلفاز الذي غاب عنه شريط اللقب المهيب وبقى صاحبه الدولي يغرد امام عصفورة الصباحية القلقة من تهديدات العدو وهو يزكي قلقها بطريقة تضحك الثكلى ، فقد تجنب مسؤول "الشؤون الدولية" ذكرى مئات التهديدات التي اطلقها العدو ولم تنفذ نظرا لوقوع خاصرته الرخوة تحت رحمة صواريخ تكاد من شوقها الى ملاقاة اهدافها تتخطى دائرتها الكهربائية وتنطلق من تلقاء نفسها ، كان خبير الشؤون الدولية يقول بلهجة ضيعته المحببة ( ليكي ليال مافي خبر كذب بيطلع من اذاعة اسرائيل نحن منفنص ومنجلط بس هني لأ ، يعنى الله يسترنا ، قبل مرت على خير وامريكا تدخلت ومخلتهن يردو وقبلها كان الرئيس شيراك حاطط كل ثقله والسنة اللي فاتت كانت سنة انتخابات ومافيهن يردو بس هالمرة اكيد ) سألت المذيعة بلهجة من حجز للمغادرة على اول طائرة (يعنى مافي امل ) اجابها ( لالالالا خلص خلص ) . تبادل يومها مع رفاقه النكات حول ضرورة كتابة وصيتهم الاخيرة قبل ان تأتي العاصفة !. ومضى الركب يحمل في مايحمل مشروع صحفي ينكد عليه عيشه استخفاف بعض اصحاب الصحف بدائرة التوظيف في صحفهم، وخفة بعض الصحافيين الذين يحملون القاب توقف الدم في العروق ... مسؤول الشؤون الدولية؟! كثير عليه ان يكون صفيحة ماء على عربة بيع الترمس على رأي عادل امام . أقتربت القافلة العسكرية من نقطة المقتل ، امسك منظاره المكبر ليتأكد من عدم استخدام العدو للمدنيين دروعا بشرية دقق النظر جيدا حتى أطمئن ثم ضغط على الزناد وعلى الفور تشكلت غيمة الفطر بكل مافيها من جبروت مرعب وامتصت العبوات الهائلة الاوكسجين من الجو ونفثته مع الصخور والكرات المعدنية نارا هائلة عصفت بالقافلة واطاحت بسيارة الوسط التي تحمل قائد الرتل غالبا والقت بهيكلها الملتوي بعيدا عن الطريق! . امسك نظارته المكبرة مجددا، لديه واجب آخر وهو احصاء خسائر العدو ، وشاهد على الفور رتبة "سيغال آلوف " على كتف احدى الجثث المهشمة وعلى مقربة من صيده الثمين شاهد وجه السائق الفتى وهو يلفظ الدم وفيه بقية من رمق ، كان صغر السن عاملا مؤثرا فيه وفي آخوانه ، اثاره المشهد فتمتم بلعنة ملئت فمه مرارة وتسائل غاضبا : اي حماقة دفعت ذوي هذا الصبي اليافع لترك اوطانهم الآمنة والمزدهرة ليلقوا بفلذات اكبادهم في نار تستعر بيأس الثكالى والم اليتامي وذل أعزاء ناموا على امن بيوتهم الدافئة واستيقظوا في مخيمات اللاجئين لا يملكون الا ملابس نومهم التي خرجوا بها ؟. شاهد اثار الانفجار في العربة المتقدمة ولاحظ حركة نشطة لمن فيها، ورمق عربة الحماية المتأخرة بنظرة من يتعجل الانسحاب ولاحظ خلو مقعد السائق الذي خرج طائرا بفعل الانفجار من النافذة المحاذية لها وتأكد من همود من تبقى فيها لعلهم قتلى تساءل متمنيا ثم دفعته تجارب سابقة الى تسجيلهم في ذهنه كجرحى على الارجح !. القى بعدة التفجير في كيس عازل ودفنه في حفرة كانت معدة لهذا الغرض، حمل رشاشه ويمم وجهه شطر عرينه المحفور في الصخر ، ماهي الا خطوات حتى سمع دوي الرصاص ينطلق في شتى الاتجاهات ، ضرب الارض بقدمه وانتفخت اوداجه من الغضب واحمر وجهه من الاهانة : عادة يتظاهرون بالموت حتى تأتيهم النجدة، فمابالهم اليوم يستهينون به ويزرعون ارضه بالرصاص ؟! . رغم علمه بمخالفة التعليمات وثقته بأنه سيتعرض للتأنيب بعد ان يشاهد قادته الفيلم الذي يقوم احد رفاقه بتسجيله الآن على بعد آمن ، عاد ادراجه بسرعة البرق كي لا يسمح للمنطق بالاستحواذ على غضبه وانصب كالسيل من فوق الربوة التي كان يحتمى بها ، شرع رشاشه باتجاه مصدر النار المنطلق من نوافذ العربة المتقدمة واطلق زخات مدروسة من الرصاص اسكتت النافذة الامامية ، تطايرت الحصى وانتشر الغبار كثيفا تحت قدميه وعلى ميمنته وميسرته وفوق رأسه ادرك انهم يطلقون النار عليه وان اصابته مسألة وقت لا اكثر ، الامر الذي دفعه الى مسارعة الخطى .. عشر خطوات قبل الوصول ثمانية ... ستة ... اثنتان ... وارتج الدرع على صدره جراء ارتطام زخة من الرصاص عليه دفعة واحدة شعر بألم حاد يطبق على قلبه من جراء تحطم ضلوعه وشعر بطعم الدم في فمه ... خطوة واحدة ... الآن الآن ... هنا وقف الزمان : بسحر غامض, توقفت عقارب ساعته عن الدوران ، ماان دخلت ماسورة رشاشه الى النافذة الملتهبة رعدا وبرقا! حتى هدأت الدنيا وتوقف همسها لكأنها تخشى ان تزعج تركيزه على قتل جلاديه ، صدقت نظرية اينشتاين النسبية : شتان بين زمن تتلقى فيه الرصاص وانت ملقى على ركبتيك وعلى عينيك حجابا وفي يديك القيد وبين زمن ترد فيه الصاع صاعين وتسقي ساقيك الآثم شربة من عين دوائه!! . عاد اليه روعه تلفت يمينا ويسارا ليطمئن الى موقفه عاد اليه بصره بصورة عن هدوء لا يكدره الا عويل الفتى الجريح خلف مقود سيارته وهو ينظر بلوعة الى ماحدث امامه، علق رشاشه على كتفه ومضى بهدوء الى صيده الاول وانتزع الرتب من على كتف كبير القوم ووضعها في جيبه وسار متثاقلا بأتجاه الناجي الوحيد تتراقص امام عينيه مشاهد من قانا والمنصوري ومدرسة بحر البقر ودير ياسين وصور ذبح الاسرى في سيناء وغيرها وغيرها و...و.... ... تظلل وجهه بظل مخيف يظهر نية قاسية لا تخفى على الناظر ... تعالى عويل الجندي وجحظت عيناه وهو يرى قاتل رفاقه يقترب منه ببطء وعزم، امتدت يده الى باب العربة وفتحته وتلقف الجندي المشلول رعبا وهو يسقط منها، وقف صاحبنا وقفة جامدة وعدوه بين يديه يضغط بثقله على ضلوعه المكسورة وينتحب بصوت مختنق، بدت اللحظة وكأنها الدهر برمته...
.. صوت محمد (ص) يدوى في اذنيه: لا تقتلوا اسيراً ولا تجهزوا على جريح. علت السكينة وجهه الغاضب، مدد عدوه على الارض، مشى الى العربة ينتزع منها جهاز ارسال، القى به على مقربة من عدوه، اشار باصبعه وتمتم : . Call Them,Save Yourself!. ، ومضى نحو مأمنه بخطى شد من عزمها فرح غامر وسعادة لا توصف .! .

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

اشكر قلمك لانه ذكرنا ان الاسلام رحمة قبل اي شيء آخر